في وداع البطريرك 5/15/2019

ترأس قدس الاب العام الاباتي مارون بو جودة القداس الالهي في كنيسة الصرح البطريركي عن راحة نفس المثلث الرحمات البطريرك صفير. قدمت العائلة الانطونية التعازي لغبطة البطريرك الراعي نص عظة الاباتي مارون بو جودة في قداس المرافقة: نجتمعُ اليومَ للصلاةِ معاً على نية المثلَّثِ الرحمات البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير وقد سلَّمَ الوديعةَ للآب السماوي، مُنهياً مسيرتَه الـمُثمرةَ على الأرض، وتاركاً بصماتٍ مؤثِّرةً في تاريخِ كنيستِنا المارونيةِ وفي لبنانَ والشرقِ الأوسط. ما ميّز المغفورَ له أنه كانَ رجُلَ صلاةٍ وخَلوة، وكانت حياتُه الشخصيةُ مكرَّسةً بالكلِّيةِ للرب. عاشَ قَشِفاً على مُختلف المستويات، كان قاسياً مع ذاتِه، لا تُبهِرُهُ المظاهرُ، ولا تُزيغُ قلبَه، بل كان ثابتاً في الرب، مُثابراً على القِيَم والتنظيمِ الداخلي لحياته، وللديرِ الذي عاشَ فيه إنْ في بكركي أو في الديمان، فكانَ مثالَ المكرَّسِ الذي لا يُلهِيه شيء عن الله. فالنُسكُ الذي عاشه، كان له تأثيرٌ كبيرٌ على علمِه ونَظْرَتِه للحياة، فكان لاهوتياً مُميَزاً، ومُتَكلِّماً لبقاً، وكاتباً سَلِساً. ويَلفُتنا كَمُّ الكتاباتِ التي تركَها في حياتِه والتي نُشِرت على حياته في موسوعةٍ كبيرة. كان مُتمكناً من اللغةِ العربية ومن المنطقِ السليم، لذا، كانت مقارباتُه للمواضيعِ مُختَصَرَة وشيِّقة. عَرَفَ ماذا يريدُ وماذا يُمكن أن يُعطيَ الكنيسةَ والوطنَ. لذا نجدُ أن جُرأتَه في التعاملِ مع الموضوعاتِ الكنسيّةِ والوطنيةِ لافتةً، فلَم ترهِبْهُ التحدياتُ، ولا الـمَخاوفُ العابرةُ، ولم تأخُذْه الأحداثُ إلى حيثُ تُريد، بل كان تَدَخُّلَه، في الكثيرِ من المواقع والمواقفِ، يُشَكِّلُ رؤيةً وجوديةً للكنيسةِ والوطن. وما زالت كلماتُه، بعد استقالته بسببِ صحتِه، تَتَرددُ على مسامعِ الجميع، مواقفُه السياسيةُ يرددُها السياسيون لأنها مدرسةً في الحريةِ والنضالِ والاستقلالِ والرؤيةِ المستقبلية، أما المواقفُ الدينية والكنسيَّة فهي محطُّ كلامِ الكثيرِ من أبناءِ الكنيسةِ وإكليروسِها في السنوات الأخيرة. لا يمكننا أن نتجاوزَ شخصيةً كنيسةً راقيةً كالمغفورِ له البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، الذي عَمِلَ بِجِدِّ في الكثيرِ من الموضوعات الكنسيةِ، وكان أنْ شَهِدَ لبنانُ في أيامِه على انعقادِ "السينودوسُ من أجل لبنان"، الذي يبقى الوثيقةَ الأفضلَ لـمُقاربةِ الوجودِ والفاعليةِ المسيحيةِ في لبنانَ، ناهيكَ عن جعلِ لبنانَ ساحةً للحوارِ والتلاقي وليسَ لصراعاتِ الآخرينَ على أرضِنا. هذا السينودسُ الذي ترجمه البطريركُ جرأةً في التعاطي مَعَ مُختلَفِ الملفاتِ السياسيةِ والوطنيةِ، دون خوفٍ من تحجيمٍ أو تهميشٍ، بل كان له الكلمةُ الفصلُ في الكثيرِ من الأمورِ على مستوى الكيانِ والوطنِ والحريةِ، وعلى مستوى النضالِ والمواجهةِ الحقّةِ في استعادةِ الحقوقِ السياسية. كما شَهِدَتْ الكنيسةُ المارونيةُ في أيامِهِ على انعقادِ المجمعِ البطريركيّ المارونيَّ الذي استعادَ ورسمَ الشخصيةَ المارونيةَ على مستوى التاريخِ والـمُقارَبَةِ اللاهوتيةِ للوجودِ المارونيِّ الـمَشرِقي، وعلى المستوى الليتورجي. فكان التجديدُ الليتورجيِّ باباً للولوج إلى غِنى كنيستنا، وإلى مشاركةٍ فُضلى في العملِ الرعوي. ولم يُهملْ البطريركُ صفير الإنتشارَ الماروني، بل عزَّزه، وقامَ بزياراتٍ لأبرشياتِنا المارونيةِ في العالمِ لتعزيزِ اللُحمةِ والتواصلِ واللقاءِ مع أبنائِه الموارنةِ أنّـى وُجدوا. نُودِّعُ اليومَ أباً وراعياً وقائداً، بَدا قاسياً في تربيةِ أولادِه، ولكنَّه نشّأَهُم على تَحمُلِ المسؤوليةِ الوطنيةِ والكنسيةِ، وكان أمامَهم مدرسةً في التقشُّفِ الشخصيِّ ووضوحِ الرؤيةِ، وَهْوَ ما سَيُطبَعُ لسنواتٍ كثيرةٍ في تاريخِ كنيستِنا ووطنِنا، فاستحقَّ لقبَ البطريركَ عن جدارةٍ وممارسةٍ لأنه أصبحَ مرجعيةً لأجيالٍ كثيرةٍ ولأبنائِه الموارنةِ في مُختلَفِ مفاصلِ حياتِهم. فيه نرى هذا الأبَ الصالـحَ الذي لا يَستهلِكُ المحبةَ بإرضاءاتٍ صغيرة، إنما يُشدِّدُ على المواقفِ التي تدومُ والتي تؤسِّسُ لحياةٍ كريمةٍ وشريفةٍ. تركنا البطريركُ عن عمرِ تسعة وتسعين عاماً، نما خلالها كشجرةِ أرزٍ صامدةٍ خالدةٍ (وهي تنمو بِبُطءٍ عادةً) ، وأعطتْ ثمارَها في حينِه، وتحتَ أفياءِ فكرِه وأبوَّتِه تَظلَّلَ الكثيرون، وسيحمِلون هذا الإرثَ طويلاً. إن أرثَ البطريركِ صفيرْ هو تلكَ الصورُ الرائعةُ التي رسمَها بكلماتِه عن الكنيسةِ والوطن، ونتمنى أن يتردَّدَ صداها لأجيالٍ قادمة. نودِّعُ اليومَ قامةَ كنسيةً ووطنيةً لافتةً، طَلَّةً يَلِفُّها الإيمانُ بالحق، شامخٌ من عَليائه، يومَ كان معنا واليومَ وهو يُرفع عنا! شاهِدٌ على تحوُّلاتِ التاريخِ المفصليةِ، وبِالأَولى صانعُها، نودِّع عَلَماً حُفِرَ في قلبِ كلِّ إنسانٍ وفي ذهنِهِ، نُودِّعُ "أيقونة" ارتسمتْ فيها خيوطُ أحلامِنا، وألوانُ حريتِنا. نستودعُه اليومَ قلبَ الله، الذي من لَدُنْهُ قَبِلَ دعوتَه، وهو يُسلِمُ اليومَ الوديعةَ للآبِ السماوي، ونُصلّي لتبلغَ دعوةُ كلٍّ منَّا مَبلَغَها في الحياةِ الأرضية، وتُسهِمَ برسالتِها وشهادتِها في عيشِ الإيمان. فباسم الرُهبانية الأنطونيَة المارونيةِ وباسمِ جميعِ مؤسساتِها في لبنانَ وبلادِ الانتشارِ وباسمي الشخصيّ نتقدّمُ بأحرّ التعازي من صاحبِ الغبطةِ والنيافةِ البطريركِ مار بشارة بطرس الراعي ومن السادة الأساقفة ومن كل مارونيِّ وكلِّ لبنانيٍّ سائلينَ الراحةَ الأبديةَ لمثلّثِ الرحمةِ، والحياة المقدسة للجميع. ومع أبينا المغفور له نرفع المجد للآب والإبن والروح القدس، مبدأ وغاية وجودنا، الآن وإلى الأبد

 

N.B.: cliquer-ici pour les photos